حين وقف وزير الدفاع الصومالي أحمد معلم فقي أمام مجلس الشيوخ هذا الأسبوع وقال: «لن يتحقق الأمن الدائم طالما بقيت القوات الأجنبية داخل البلاد»، أعاد فتح أحد أكثر الملفات حساسية في التاريخ السياسي الحديث للصومال — وهو سؤال من الذي يؤمّن الصومال فعليًا؟
لقد ظل هذا النقاش حاضرًا في خلفية المؤتمرات السياسية واجتماعات المانحين، مكتومًا تحت منطق الضرورة: أن الصومال، الذي أنهكته عقود من الصراع والانهيار المؤسسي، لا يستطيع بعدُ أن يقف على قدميه بمفرده.
لكن كلمات فقي — الهادئة والواضحة، الصادرة من الرجل المسؤول عن إعادة بناء منظومة الدفاع الوطني — اخترقت جدار الحذر السياسي. لم تكن تصريحاته مجرد نقاش في السياسة العسكرية، بل كانت دعوة إلى سيادة الأمن الوطني — مبدأ أجّله الصومال طويلًا.
تاريخ طويل من الوجود العسكري الأجنبي على الأرض الصومالية
بدأ تورط الصومال مع القوات الأجنبية عام 1992 عندما نشرت الأمم المتحدة بعثة (UNOSOM)، وتلتها القوات الأمريكية ضمن عملية “استعادة الأمل” (UNITAF) لمواجهة المجاعة والحرب الأهلية. لكن ما بدأ كمهمة إنسانية تحوّل سريعًا إلى مواجهة مسلحة مع الفصائل المحلية، وانتهى بمأساة “سقوط الصقر الأسود” عام 1993 في مقديشو.
وبحلول عام 1995 انسحبت القوات الأممية، تاركة خلفها مرارةً عميقةً وانعدام ثقة، ووهمًا بأن السلام يمكن استيراده من الخارج. على مدى أكثر من عقد بعد ذلك، تُرك الصومال في فوضاه — دولة مفككة بلا مؤسسات، تحكمها الميليشيات. ثم، مع صعود حركة الشباب في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، عاد المجتمع الدولي من جديد — لكن هذه المرة تحت راية الاتحاد الإفريقي.
وفي عام 2007 أُطلقت بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال (أميصوم – AMISOM)، وضمت قوات من أوغندا، وبوروندي، وكينيا، وإثيوبيا، ولاحقًا جيبوتي. كان هدفها المعلن دعم الحكومة الانتقالية وطرد مقاتلي الشباب من المدن الكبرى.
ومع مرور الوقت، تطورت البعثة — اسمًا وهيكلًا — لتتحول إلى (ATMIS)، ثم إلى (AUSSOM)، وهي المهمة الانتقالية الحالية الهادفة إلى تسليم الملف الأمني للقوات الصومالية بالكامل. كل نسخة كانت مؤقتة على الورق، لكنها في الواقع بقيت أطول مما خُطط لها.
الدور المزدوج للقوات الأجنبية
للتاريخ، لا يمكن إنكار أن بقاء الدولة الصومالية كان مدينًا في بدايته لتضحيات بعثة أميصوم. فقد حررت مقديشو وكيسمايو وبيدوا وبلدوين وجوهر، ومهّدت الطريق لنشوء مؤسسات الدولة الاتحادية، وساهمت في تدريب آلاف الجنود الصوماليين، ووفرت غطاءً أمنيًا لكتابة الدستور الجديد وبناء البرلمان وإجراء الانتخابات.
لكن هذه الإنجازات جاءت بتكلفة باهظة. إذ تحوّلت قوات الاتحاد الإفريقي عمليًا إلى سلطة أمنية موازية — أكثر تمويلًا وتسليحًا وانضباطًا من الجيش الصومالي، وفي بعض المناطق أكثر ثقةً لدى السكان. أصبحت القرارات العملياتية تمر عبر غرف تحكم أجنبية، مما جعل الجيش الوطني تابعًا لا فاعلًا، وأصاب معنوياته بالضعف.
وفي الوقت ذاته، أدّى وجود قوات من الدول المجاورة، خاصة إثيوبيا وكينيا، إلى إدخال عنصر جديد من التنافس الإقليمي الذي حوّل الجغرافيا الأمنية للصومال إلى ساحة نفوذ سياسي.
ظلّ الجيران – أمن أم نفوذ؟
كان تدخل إثيوبيا دائمًا معقدًا. ففي عام 2006، تدخلت خارج إطار الاتحاد الإفريقي للإطاحة باتحاد المحاكم الإسلامية، لكنها بذلك أشعلت التمرد الذي أنجب حركة الشباب. ومنذ ذلك الحين، تسعى أديس أبابا للحفاظ على نفوذها من خلال دعم إدارات محلية موالية على طول الحدود، في ما يصفه محللون بأنه محاولة لإنشاء منطقة عازلة.
أما كينيا، فقد دخلت رسميًا الأراضي الصومالية عام 2011 في إطار عملية “ليندا إنشي”، ثم انضمت إلى بعثة أميصوم. وساهمت قواتها في استعادة كيسمايو، الميناء الاستراتيجي، لكن نفوذها المتواصل في جوبالاند أثار شكوكًا بأن أهدافها تتجاوز محاربة الإرهاب إلى تحقيق مكاسب اقتصادية وجيوسياسية.
وتؤكد كل من نيروبي وأديس أبابا أن وجودهما يصب في مصلحة استقرار الصومال، لكن استمرار وجودهما الطويل طمس الخط الفاصل بين المساعدة والتدخل، وجعل الصوماليين يتساءلون: هل تُحمى سيادتهم، أم تُستنزف تدريجيًا؟
ماذا جنى الصومال بعد كل هذه السنوات؟
ثمانية عشر عامًا من الوجود الإفريقي المسلح أسفرت عن نتائج متباينة. فالمدن الكبرى أصبحت أكثر أمنًا، وعادت السفارات الأجنبية إلى العمل، واستعاد الصومال عضويته في المنظمات الإقليمية والدولية. لكن مساحات شاسعة من الريف ما زالت خارج سيطرة الدولة، وتواصل حركة الشباب فرض الضرائب وإدارة القضاء وتنفيذ الهجمات حتى بالقرب من القواعد العسكرية. لقد نجح الوجود الأجنبي في احتواء التهديد، لكنه لم ينجح في إنهائه.
وفي المقابل، لا تزال المؤسسات الأمنية الصومالية ضعيفة ومجزأة، تتأثر بالولاءات القبلية والانقسامات السياسية، ويعتمد تمويلها وتسليحها ورواتب أفرادها على المانحين.وبذلك أصبحت المنظومة الأمنية الصومالية قائمة على أقدام مستعارة — قادرة على السير، لكنها عاجزة عن الوقوف وحدها.

