لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي في الصومال مجرّد منصات للتواصل أو الترفيه؛ فقد أصبحت المجال العام الأول الذي تُدار فيه النقاشات السياسية والدينية والاجتماعية في بلد يعاني ضعف المؤسسات وغياب المرجعيات الفكرية. لكن هذا التحول الكبير جاء بثمن باهظ: هبوط غير مسبوق في مستوى الخطاب العام، وازدهار ظاهرة يمكن وصفها بلا تردد بأنها «السخف الجماعي». ففي ظل بيئة سياسية منقسمة، واقتصاد هش، وذاكرة جمعية مثقلة بسنوات من الصراع، وجدت التفاهة الرقمية فرصتها لتعيد رسم حدود النقاش العام وترسم ملامحه الأكثر ابتذالاً.
تُظهر التجربة الصومالية أن منصات وُلدت للسرعة والتواصل اللحظي أصبحت اليوم الساحة الأساسية لصياغة الرأي العام، وغالباً دون أي قواعد أو مسؤولية. تمنح هذه المنصات قوة تعبيرية متساوية للجميع، بصرف النظر عن مستوى التعليم أو الخبرة، الأمر الذي أدّى إلى تآكل جدي في جودة النقاش. الأخطر أن هذا الانحدار لا يأتي من المستخدمين العاديين فقط، بل من الفئات التي يُفترض أنها تشكّل نخبة المجتمع: الأكاديميون، والسياسيون، ورجال الدين.
الأكاديميون، الذين يُنتظر منهم قيادة النقاش بالمعرفة والمنهج، ينجرف كثيرون منهم إلى معارك عشائرية أو سجالات سطحية، وينشرون محتوى يفتقر إلى الحد الأدنى من معايير الانضباط والاتزان الذي ينتمون إليه. أما السياسيون، فيغادرون مواقع القيادة لصالح لغة الشارع الإلكتروني، ويتورطون في تضخيم الشائعات أو إشعال الجدل بدلاً من تهدئته، وكأنهم جزء من لعبة البحث عن “الترند”. ورجال الدين، الذين كانت كلماتهم تملك وزناً أخلاقياً، أصبح بعضهم أسير لغة الاستعراض، يلجأ إلى الصدمة والمبالغة بحثاً عن المتابعين، ما أدى إلى تبسيط مخلّ لقضايا دينية معقدة وزيادة الاستقطاب المجتمعي.
هذا الانهيار من أعلى السلم الاجتماعي أكثر خطورة من التفاهة الشعبية. فعندما تفقد النخبة توازنها، يخسر المجتمع بوصلته الأخلاقية والفكرية، وتصبح الساحة مفتوحة أمام كل أشكال العبث. غياب القدوة، وانخراط أصحاب المكانة في لعبة المنصات، خلق فراغاً خطيراً سمح للسطحي بأن يتفوّق على الجاد، وللعالي صوتاً أن يتغلب على العميق فكراً.
غير أن جذور الظاهرة أعمق من سلوك الأفراد. فالصومال لا تملك منصات مؤسسية قوية للحوار المدني المنظم، ما جعل قضايا بالغة الحساسية—مثل الفيدرالية، الانتخابات، والعلاقات بين الأقاليم—تُناقش عبر بث مباشر مشحون أو منشور مصمم لجذب المتابعات. يتحول الخلاف الديني إلى مواجهة مفتوحة تزرع الانقسام بدلاً من معالجة الإشكالات، وتنتشر السرديات العشائرية بسرعة تضاعف الانقسامات وتستدعي جراح الماضي. ومع ضعف التعليم النقدي، يجد الجيل الشاب نفسه في مواجهة سيل من المعلومات دون أدوات للتمييز بين الحقيقة والتهويل، بين التحليل والاصطياد في المياه العكرة.
وفي الصومال، لا تبقى آثار السخف الرقمي في العالم الافتراضي. يمكن لفيديو عابر أن يشعل جدلاً وطنياً، ولجملة غير محسوبة أن توتر العلاقات العشائرية، ولادعاء سياسي غير مسؤول أن يغيّر مسار التفاعلات بين مؤسسات الدولة. التأثير يمتد إلى الأمن الداخلي، وينعكس على الاستقرار الاجتماعي، ويغذي حالة انعدام الثقة التي يعاني منها المجتمع أصلاً.
ولا يمكن تجاهل دور التحول الرقمي في إضعاف مصادر السلطة التقليدية. فالعلماء والشيوخ والمربّون ورجال الدولة، ممن شكّلوا على مدى عقود ركائز النظام الاجتماعي، دخل كثير منهم إلى المنصات بشروطها، لا بشروط مكانتهم. تحولوا من مرجعيات إلى مؤدين رقميين، ومن حكماء إلى منافسين على جمهور يبحث عن الإثارة. ومع هذا التحول، تراجعت القدرة على توجيه النقاش أو تهدئة التوترات، وفقدت الأصوات الرصينة حضورها.


