لم يعد الحديث عن مفاوضات بين الحكومة الصومالية وحركة الشباب مجرد تسريبات متناثرة أو تقديرات سياسية مبالغ فيها، بل أصبح جزءاً من نقاش يدور بهدوء في العواصم المعنية بالصومال أكثر مما يدور في مقديشو نفسها. فبينما تستمر المواجهات على الأرض بوتيرة لا تُغَيِّر ميزان القوى جذرياً، تتكثف في الخلفية—بعيداً عن الأضواء—اتصالات دولية واستخباراتية تستكشف إمكانية فتح مسار سياسي مع الحركة، ولو على المدى الطويل. إنها مفاوضات لا تُعلن، ولا تُنكر، لكنها تتحرك في الظل، مدفوعة بحسابات إقليمية ودولية تتجاوز قدرة أي طرف صومالي على ضبطها. وفي قلب هذا المشهد الملتبس، تجد الدولة الصومالية والحركة نفسيهما أمام سؤال واحد: هل آن أوان اختبار ما لم يجرؤ أحد على طرحه علناً طوال عقدين من الحرب؟
تعود فكرة التفاوض بين الحكومة الفيدرالية الصومالية وحركة الشباب إلى السطح كلما وصلت الحرب إلى مرحلة تستنزف الطرفين دون قدرة واضحة على الحسم، وكأن الصراع يُعاد إنتاجه في دائرة لا نهائية لا تنتصر فيها الدولة ولا تنهزم الحركة. وبعد نحو عشرين عاماً من المواجهة، يبدو أن الصراع يقترب من حافة جديدة: مرحلة لا تستطيع فيها القوة العسكرية وحدها إعادة تشكيل الواقع السياسي أو الأمني، ولا تملك فيها البلاد ترف الانتظار إلى ما لا نهاية. وهنا تبدأ “المفاوضات في الظل” بالظهور كخيار تتداوله العواصم، قبل أن يتداوله الصوماليون أنفسهم.
لكن السؤال الأعمق يبقى: هل نضجت شروط التفاوض فعلاً؟ وهل يملك الطرفان الإرادة السياسية والقدرة الفنية للانتقال من حرب أنهكت الجميع إلى تسوية كبرى تعيد رسم مستقبل البلاد؟
أولاً، من المهم فهم ما يملكه كل طرف في هذه اللحظة. الحكومة الفيدرالية تدخل أي عملية تفاوض محتملة وهي محاطة بدعم دولي واسع، واعتراف سياسي لا ينافسها عليه أحد، وشبكة من الشركاء الإقليميين والدوليين الذين يرون في استمرار الدولة القائمة ضمانة لعدم انزلاق المنطقة نحو سيناريوهات أكثر تعقيداً. وتستند الحكومة أيضاً إلى إمكانات مالية معتبرة، وقدرة على الوصول إلى الدعم الفني والعسكري، فضلاً عن امتلاكها سلطة تمثيل الشعب الصومالي وشرعية صياغة مستقبل الدولة، وهي عناصر تجعلها الطرف الرسمي الوحيد القادر على منح الشرعية التي تسعى إليها حركة الشباب.
وفي المقابل، تمتلك الحركة عناصر قوة مختلفة لكنها لا تقل أهمية، بل تجعلها الندّ الحقيقي الذي لا يمكن تجاوزه. فهي تسيطر على مساحات واسعة من البلاد، وتتمتع بتماسك داخلي غير مسبوق، وتملك منظومة جباية ضخمة وفوائض مالية تمنحها استقلالية تشغيلية كاملة. كما أن سهولة اتخاذ القرار داخلها تمنحها مرونة سياسية وأمنية لا تمتلكها الحكومة. وتضاف إلى ذلك قدرتها على فرض السلام أو استمرار الحرب، وإمكانية إعادة توحيد مناطق واسعة تحت سلطة واحدة، وهي ورقة تحظى برضا شريحة من المجتمع الباحث عن الاستقرار. وتحتفظ الحركة أيضاً بموقع يتيح لها التأثير في المعادلات الإقليمية، فضلاً عن امتلاكها معرفة دقيقة ببنية الدولة ونقاط ضعفها، وهي ميزة اكتسبتها من خلال صراع طويل لا يخلو من الاحتكاك اليومي بالمؤسسات الحكومية.
ثانياً، يمكن القول إن أصل المفاوضات المحتملة يتجاوز مجرد وقف إطلاق النار ليصل إلى سؤال أخطر: ماذا يريد كل طرف؟ بالنسبة للحكومة، المطلب الأساسي هو الحصول على سلام مستدام يسمح بإعادة ترتيب البيت الداخلي، واستكمال عملية الإصلاح السياسي، والتحضير لانتخابات مباشرة في بيئة أقل عنفاً. وهي تدرك أن تكلفة الحرب المستمرة تستنزفها سياسياً واقتصادياً، وأن الوصول إلى تفاهم مرحلي مع الحركة قد يمنحها عمراً سياسياً أطول من دورة انتخابية، ويضعف نفوذ خصومها في الداخل. أما بالنسبة لحركة الشباب، فإن ما تطمح إليه يتجاوز المكاسب الميدانية. هدفها الأساسي هو اكتساب شرعية سياسية تخرجها من عزلة التصنيف الدولي، وتفتح لها باب التحرك كقوة وطنية ذات خطاب معلن بدل أن تعمل في الظل. لكنها، في الوقت ذاته، تخشى أن يؤدي دخولها العملية السياسية إلى انقسام الجبهة الداخلية التي توحدت حول الحرب، لا حول السلام؛ كما تخشى أن تنقض الأسرة الدولية التزاماتها، وأن تجد نفسها في نهاية المطاف أمام “نسخة جديدة من تجربة المحاكم الإسلامية”، حيث يُعاد دمجها في النظام ثم يتم تحييدها لاحقاً. ومع ذلك، فإن المكسب الأكبر للحركة—إذا نجحت المفاوضات—هو اعتراف رسمي يجعلها جزءاً من مستقبل البلاد لا مجرد خصم مسلح.
وفي هذا السياق، وحسب معلومات متداولة في الدوائر الدبلوماسية، فإن دولاً كبرى وأخرى إقليمية، إضافة إلى منظمات وأجهزة استخبارات، أقامت خلال السنوات الماضية اتصالات غير مباشرة بالحكومة الصومالية وبحركة الشباب بشأن إمكانية الدخول في مفاوضات. معظم تلك التحركات كان أقرب إلى “جس النبض” واختبار النوايا، ولم يصل إلى مستوى عملية سياسية متكاملة. وقد جرت دائماً في الظل وبعيداً عن أي التزامات رسمية، إذ تخضع لحسابات أكبر وأعقد تتجاوز الصومال ومحيطها، وربما لا تظهر نتائجها إلا بعد عقود. ومع أن طبيعة الاستعجال متأصلة في المزاج الصومالي الشعبي، فإن هذه التحركات الدولية لا تنتمي إلى هذا الإيقاع، بل إلى حسابات باردة تتريث وتنتظر الظروف المثالية قبل كشف أوراقها.



