بقلم/ علي حَلني
ما كان يُفترض أن يكون بداية عهدٍ جديد من تقاسم الحكم والعدالة، تحوّل بمرور الوقت إلى عملية بطيئة لتآكل السيادة الصومالية، تحت لافتة نظامٍ صُمِّم خارج حدود البلاد، ففرّق أبناءها أكثر مما وحّدهم.———————
حين قال الزعيم الكيني جومو كينياتا كلمته الشهيرة: “عندما جاء المبشّرون كان الأفارقة يملكون الأرض، والمبشّرون يملكون الكتاب المقدّس. علّمونا أن نُصلّي وعيوننا مغمضة، وعندما فتحناها كانت الأرض قد ضاعت وبقينا مع الكتاب المقدّس”،
لم يكن يروي حادثة من الماضي فحسب، بل كان يصف أسلوبًا راسخًا في السيطرة الناعمة، يبدأ بالإقناع الأخلاقي وينتهي بالتحكّم الكامل.
في الحالة الصومالية الحديثة، تكرّر المشهد نفسه ولكن بلباسٍ جديد. لم يأتِ “المبشّرون الجدد” هذه المرة حاملين الكتاب المقدّس، بل جاؤوا بنظام الفدرالية، وقدّموه كالوصفة السحرية لإنهاء الأزمات: الحكم الرشيد، وتقاسم السلطة، وإيقاف الاستبداد. قالوا لنا: “هذا هو النظام الذي يليق بكم، سيحقّق العدالة والمشاركة ويُنهي المركزية القديمة.” فوثقنا بوعودهم، وأغلقنا أعيننا على أمل الخلاص، وتخلّينا عن النظام الوحدوي الذي وُلدت عليه دولتنا، ظانّين أن الفدرالية هي طريق النجاة.
لكننا حين فتحنا أعيننا، اكتشفنا أننا خسرنا النظامين معًا. لم نعد نملك حكومة مركزية قادرة، ولا اتحادًا فدراليًا متماسكًا. خرجنا من التجربة بنظامٍ مشوّه لا يملك سلطة حقيقية ولا يمنح الأقاليم استقلالًا فعليًا. فالحكومة الفدرالية بلا سيادة كاملة، والولايات الإقليمية تتصرّف كأنها دول مستقلة في الشكل، لكنها في الجوهر رهينة الخارج، حيث تُتَّخذ القرارات الكبرى بعيدًا عن مقديشو.
أصبحت الجهات المانحة هي من يحدّد أولويات التنمية، والبعثات الدولية هي من يدير الأمن، والمنظمات الأجنبية هي من تشرف على الاقتصاد والانتخابات. وبينما ينغمس الصوماليون في خلافاتٍ لا تنتهي حول دستورٍ لم يكتمل وصلاحياتٍ لم تُعرّف وحدودٍ لم تُرسم، تحوّلت الفدرالية من وسيلةٍ لبناء الدولة إلى أداةٍ لتفكيكها، ومن جسرٍ للمصالحة إلى جدارٍ للفُرقة.


