نادراً ما يُحسم النصر في السياسة داخل ساحات المواجهة وحدها. وكما هو الحال في الحروب، فإن الانتصار الحقيقي يُصنع قبل بدء المعركة. فقد قال الاستراتيجي الصيني سون تزو إن القائد الماهر هو من يختار معاركه وقد ضمن الفوز فيها مسبقاً. فالسلطة لا تُنتزع فجأة، بل تُبنى بهدوء في الظل، عبر الحسابات الدقيقة، وحسن التوقيت، وإعادة تشكيل موازين القوة قبل أن تظهر نتائجها إلى العلن.
انطلاقاً من ذلك، يمكن افتراض أن الحزب الحاكم في الصومال أمضى السنوات الماضية وهو يتهيأ لهذه اللحظة السياسية. وبين خيارات متعددة، بعضها سهل وبعضها محفوف بالمخاطر، بدا أن الرهان لم يكن فقط على الفوز بالانتخابات، بل على إعادة رسم قواعد اللعبة السياسية نفسها. فالحكم لا يقوم على صناديق الاقتراع وحدها، بل على التحكم في الإطار الذي تُدار ضمنه العملية السياسية برمتها.
السياسة في جوهرها مسألة توزيع للنفوذ: من يحصل على ماذا، ومتى، وأين، وكيف. السياسيون يسعون إلى تعزيز مواقعهم، والناخبون يطمحون إلى تمثيل حقيقي، بينما يبحث المستثمرون السياسيون عن العائد. غير أن هذه المعادلة في الصومال تتحرك داخل سياق خاص تحكمه الانتماءات القبلية وصيغة 4.5 التي طالما شكّلت أساس تقاسم السلطة. وهنا يبرز السؤال الجوهري: ما الذي جناه المواطن العادي أو الفاعل السياسي من هذا المشهد الجديد؟ ما المكاسب أو الضمانات التي أفرزتها المرحلة الراهنة؟
الإجابة، للأسف، تبدو محدودة للغاية.
فالهياكل التقليدية للعشائر الكبرى لم تعد تتمتع بالثقل نفسه. تراجعت قدرة الزعامات التقليدية على حسم القرار الجماعي، وتلاشت صورة “الزعيم القادر على الإلزام”. وفي المقابل، برزت شبكة معقدة من القوى الصغيرة: عشائر فرعية، وتيارات محلية، ونخب محدودة النفوذ، لكنها حين تجتمع تفرض وزنها السياسي وتتفوق على الكتل الكبرى.
هذا التحول غيّر قواعد الحساب السياسي. لم يعد الفوز مرهوناً بحشد الكثرة، بل بإدارة القِلّة، أو ما يمكن تسميته بـ“طغيان الأعداد الصغيرة”. وقد ينجح الحزب الحاكم في تحقيق انتصار وفق هذه المعادلة، لكنه سيكون انتصاراً هشاً، قائماً على تحالفات ضيقة ومصالح مؤقتة، لا على مشروع وطني جامع.
وهذا بطبيعته لا يؤسس لحكومة مستقرة.
فالنظام القائم على تحالفات صغيرة ومتشظية يفرض مفاوضات دائمة وتحالفات سريعة التفكك. كل طرف يطالب بضماناته، وكل قرار سياسي يحمل في طياته احتمال تفجير تفاهمات سابقة. قد يتمكن الحزب الحاكم من البقاء في السلطة، لكنه سيجد نفسه عاجزاً عن الحكم بحسم أو استمرارية. وبهذا المعنى، فإن الحزب الحاكم لا يفوز فعلياً، حتى وإن بقي في موقعه.
أما المعارضة، فهي تواجه مأزقاً مختلفاً لا يقل خطورة. فغياب الإلحاح، وضبابية الرؤية، والتباطؤ في بناء استراتيجية واضحة، كلها مؤشرات إما على سوء تقدير أو على استسلام مبكر. وفي عالم السياسة، الانتظار الطويل لا يعني الحياد، بل غالباً ما يكون طريقاً للخسارة. فإذا استمرت المعارضة على هذا النهج، فإنها لن تخسر لأنها هُزمت في صناديق الاقتراع، بل لأنها لم تخض المعركة في وقتها ومكانها الصحيحين.


