يمثل الحكم الأخير للمحكمة العليا في القضية بين وزارة الصحة الصومالية والمجلس الوطني للمهن الصحية (NHPC) أكثر من مجرد قرار قضائي؛ فهو لحظة فاصلة في مسار الحوكمة في البلاد. ففي جوهره، يكشف الحكم عن صراع مؤسسي أعمق بين سلطة وزارية أحادية الجانب وبين التعهد الدستوري بالمساءلة والشفافية والاستقلال المهني.
بدأ الخلاف في 29 مايو 2025، حين عيّنت وزارة الصحة 15 عضوًا جديدًا في المجلس الوطني للمهن الصحية، وسمّت "محمد عدّو" أمينًا عامًا، دون أي مشاورات تُذكر مع الجهات المعنية.
وردّ المجلس السابق بخطوة جريئة تمثلت في رفع دعوى لدى المحكمة العليا، مؤكدًا استقلاليته التشغيلية وطاعنًا في قانونية قرار الوزارة. وفي 27 نوفمبر، أصدرت المحكمة العليا حكمًا حاسمًا لصالح المجلس، معلنة بطلان التعيينات وفرض غرامة رمزية على الوزارة( ثلثمائة دولار). غير أنّ الوزارة، وفي خطوة تُعدّ لافتة في تحديها للقانون، عادت بعد أيام قليلة لتعيين 15 عضوًا آخرين، مما أعاد إشعال الصراع وطرح تساؤلات خطيرة حول حدود السلطة التنفيذية.
يكمن جوهر الخلاف في سوء فهم — أو ربما تجاهل مقصود — لتفويض المجلس الوطني للمهنيين الصحيين. فدور المجلس وصلاحياته محددة بوضوح في وثائق تأسيسه، كما أن العائدات الناتجة عن التسجيل والترخيص الطبي مخصّصة قانونًا لوزارة المالية. ومن ثمّ، فإن هذا الصراع على النفوذ غير مبرر قانونيًا ويعكس إشكالية أوسع في بعض الوزارات التي تتجاوز حدودها إلى مجالات ينظمها القانون بشكل واضح.
جاء حكم المحكمة العليا في وقت يشهد فيه القضاء الصومالي حالة من الشكوك العامة نتيجة اتهامات بالفساد والانحياز. لكن هذا القرار، الذي جاء بخلاف رغبات وزير نافذ، يجسد لحظة نادرة يؤكد فيها القضاء استقلاليته. ويوجه رسالة مهمة: لا مؤسسة، مهما بلغت قوتها، فوق القانون.
وعلى نطاق أوسع، يعيد الحكم إحياء الإحساس بقدرة المواطنين على التأثير. فهو يبرهن على إمكانية الطعن في القرارات الحكومية غير القانونية والانتصار عليها، وهو ما يعزز المشاركة المدنية ويؤكد أن العدالة متاحة للجميع. وبالنسبة لمجتمع أنهكته سنوات من الإفلات من العقاب وتغوّل السلطة التنفيذية، فإن هذه اللحظة تمثل نقطة تحول مهمة.
لكن تداعيات الحكم لا تقف عند حدود القضاء. إذ باتت مصداقية وزير الصحة الحالي تحت مجهر التدقيق، في ظل اتهامات تشمل سوء إدارة الأموال والتورط في شبكات الاتجار بالبشر. كما أن الحادثة الصادمة في مستشفى بنادر — حين اضطرت امرأة للولادة خارج المنشأة — زادت من تآكل الثقة ودفعت البرلمان للتدخل. وعند جمع هذه الوقائع مع تجاهل الوزارة الواضح للإجراءات القانونية في قضية المجلس الوطني للمهن الصحية، تتبلور أمامنا أزمة ثقة حقيقية لا يمكن تجاهلها.
فالقطاع الصحي في الصومال، وهو قطاع هش أصلًا، لا يحتمل المزيد من الإخفاقات. واستعادة الثقة العامة تتطلب أكثر من مجرد الالتزام بحكم المحكمة؛ إنها تحتاج إلى إصلاحات مؤسسية عميقة، واحترامًا للمعايير المهنية، وقيادة تعتبر القانون أساسًا للعمل لا عائقًا أمامه.
لقد فتحت المحكمة العليا نافذة فرصة نادرة. فمن خلال تأكيدها على سيادة القانون، أرست أرضية لحوكمة أقوى وأكثر شفافية. ويبقى السؤال الآن: هل تملك الصومال الإرادة — حكومةً ومجتمعًا — لاستثمار هذه اللحظة والمضي نحو نظام أكثر مساءلة، حتى عندما تكون الحقيقة غير مريحة؟
——-
عبدالعزيز غَدَف، كاتب ومحلل سياسي مقيم في مقديشو.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف منصة بوابة إفريقيا.


