«أنا صومالي، لستُ عشيرة، ولا راية للانقسام. أنا صوت. أنا حلم. أنا واحد».
ليست هذه العبارة، التي يتداولها الشباب الصومالي داخل البلاد وفي المهجر، مجرد تعبير وجداني أو ثقافي، بل تحمل دلالة سياسية عميقة. فهي تعكس تشكّل وعيٍ جيلي جديد، نشأ في ظل عقود من هشاشة الدولة والتفكك الاجتماعي، ويعبّر عن رفض متزايد للاستمرار في الخضوع لترتيبات سياسية لم تعد تمثل الواقع الاجتماعي أو تطلعات الناس.
ومن خلال حوارات متواصلة مع شباب صوماليين متعلمين، في الداخل والخارج، تتضح ملامح فجوة آخذة في الاتساع بينهم وبين النخبة السياسية. وغالبًا ما يجري توصيف هذه الفجوة على أنها لا مبالاة أو عدم نضج سياسي، غير أنها في جوهرها تعبّر عن تباعد بنيوي بين مجتمع يتحرك بسرعة، ونظام سياسي ظل أسير صيغ قديمة لم تتغير.
لا يزال النظام السياسي القائم في الصومال قائمًا على التوازنات العشائرية، ومساومات النخب، وتجزئة السلطة. ورغم أن هذا الإطار ساهم في مراحل معينة في منع الانهيار الكامل، فإنه في المقابل حدّ من المشاركة الواسعة، وأضعف المساءلة، وكبح الابتكار في السياسات العامة. وبالنسبة لقطاع متنامٍ من الشباب—خصوصًا أولئك الذين انفتحوا على العالم عبر التعليم والهجرة والتقنيات الرقمية—لم تعد هذه الصيغة تتيح فرصًا حقيقية للمشاركة أو التقدم.
وفي مواجهة ذلك، لا يتجه الشباب نحو الفوضى، بل نحو تصور سياسي بديل. تصور يقدّم المواطنة على الزبائنية، والمؤسسات على الأشخاص، والهوية الوطنية الجامعة على الانتماءات الضيقة. صحيح أن هذه الأفكار لم تتحول بعد إلى أحزاب أو حركات منظمة، لكنها حاضرة بقوة في الفضاءات غير الرسمية: الجامعات، والشبكات المهنية، والمنصات الرقمية، والمنتديات الثقافية.
ومن المهم التنبيه إلى أن الشباب الصومالي لم يهجر السياسة، بل انسحب من مؤسسات يعتبرها مغلقة وغير ممثِّلة. وقد تحولت السخرية والنقد واللغة الرمزية إلى أدوات للحكم على الأداء السياسي، لا بدافع السخط المجرد، بل نتيجة تقييم عقلاني لتجربة لم تلبِّ التوقعات. يُستهزأ بالخطاب السياسي لأنه فقد قدرته على الإقناع، وتُساءل السلطة لأنها أخفقت في الوفاء بوعودها.
ومع ذلك، ما زالت قطاعات واسعة من الطبقة السياسية تقلل من خطورة هذا التحول، وتفترض أن الانتخابات أو الأزمات الأمنية أو صفقات النخب ستعيد إنتاج أنماط التعبئة التقليدية القائمة على العشيرة أو الفصيلة. غير أن هذا الافتراض بات محفوفًا بالمخاطر؛ فالانسحاب من السياسة الرسمية ليس موقفًا محايدًا، بل مؤشرًا على تآكل القبول الشعبي.
لم يختر هذا الجيل الحروب الأهلية، ولا ضعف المؤسسات، ولا تفتت الحكم؛ بل وُلد في ظلها. لكن الميراث لا يعني التزامًا أبديًا بالصبر. فالشباب اليوم يقيسون شرعية الدولة بقدرتها على تحقيق العدالة، وتوفير الفرص، وضمان الأمن، وصون الكرامة، لا بذاكرة الولاءات التاريخية.
يتزامن هذا التحول الجيلي مع لحظة ديموغرافية وتكنولوجية حاسمة. فالصومال من أكثر المجتمعات شبابًا في أفريقيا، وأكثرها انخراطًا في الفضاء الرقمي. والأنظمة السياسية التي تعجز عن التكيف مع هذه التحولات نادرًا ما تحافظ على استقرارها؛ فهي إما أن تُصلِح نفسها، أو تواجه تصاعد الاضطراب وفقدان الشرعية.

