لا يمكن لدستورٍ أن يوحّد أمّةً مزّقها الدم، ولا لقانونٍ أن يصنع عدلًا في بلدٍ تحكمه العصبيّة، ولا لحكومةٍ أن تستقرّ على أساسٍ قبليّ هشّ. فمأساة الصومال اليوم ليست سياسيّة فحسب، بل أخلاقيّة وحضاريّة أيضًا. فالدولة لا تتعثّر لأنّها تفتقر إلى المؤسسات أو الموارد، بل لأنّها تُدار بعقليّاتٍ سبقت فكرة الوطن ذاته؛ حيث يسعى القانون إلى توحيد ما تواصل القبيلةُ تمزيقه.
على مدى أكثر من ثلاثة عقود، يحاول الصوماليون إعادة بناء دولتهم من تحت ركام الحرب الأهليّة. أعيد تشكيل الوزارات، وانعقدت البرلمانات، وصيغت الدساتير، ودُرّبت الجيوش، غير أنّ روح الدولة لم تتوحّد بعد. فالقبيلة التي كانت يومًا درعًا للتكافل والبقاء، تحوّلت إلى سلاحٍ سياسيّ يُقسّم السلطة ويحتكر الولاء ويُعيد تعريف الانتماء. ما كان ينبغي أن يكون دولةً يحكمها القانون، صار اتّحادًا هشًّا لكياناتٍ عشائريّةٍ تتنازع النفوذ والمصالح.
ليست المشكلة في القبيلة بذاتها، فكلّ الصوماليين ينتمون إلى قبائل كبرى وصغرى، وهي جزء أصيل من النسيج الاجتماعيّ والذاكرة التاريخيّة للأمّة. الخطر الحقيقيّ يكمن في القبيلة المسَيَّسة، تلك التي انتقلت من كونها رابطة اجتماعيّة إلى أداةٍ للهيمنة السياسيّة. فمنذ أن أصبحت السياسة تُقاس بالأنساب والولاء يُحدَّد بالدم، توقّفت الدولة الحديثة عن أداء وظيفتها، وصارت مؤسساتها واجهاتٍ لمصالح ضيّقة تتزيّا بزيّ الوطنية.
لقد تغلغلت القَبَليّة في جميع مفاصل الدولة الصومالية: في الحكومة والبرلمان والقضاء والجيش والشرطة والمخابرات، بل حتى في الهيئات التي تُوصف علنًا بأنها “مستقلة”. تحوّلت كلّها إلى شبكاتٍ عشائريّةٍ مغلقة، بعد أن فقدت روحها الوطنيّة التي تقوم على الكفاءة والنزاهة والمصلحة العامّة. فبات الانتماء أهمَّ من القدرة، والعصبيّة أقوى من القانون، والولاء للقبيلة أسبق من الولاء للوطن.
ومنذ انهيار الحكومة المركزية قبل أكثر من ثلاثة عقود، ملأ الفراغَ السياسيَّ زعماء الميليشيات وشيوخ القبائل ورجال الأعمال، الذين استخدموا الانتماء العشائريّ أداةً للسيطرة والتعبئة. لم تعد القبيلة رابطةَ تكافل، بل أصبحت وسيلةً للشرعنة والتسلّط. واستُبدلت فكرة الدولة بفكرة “الحصص”، فكلّ عشيرةٍ تسعى إلى نصيبها من البرلمان والوزارة والوظائف العليا، حتى صار الحكم توزيعًا للغنائم لا إدارةً للبلاد.
وكرّس ما يُعرف بالمحاصصة القبلية أو ”نظام 4.5” هذه القسمة، فحوّل القبيلة إلى وحدةٍ سياسيةٍ رسميّةٍ لها نصيبها المحسوم في السلطة، لا في المسؤولية. كان الهدف حفظ التوازن، لكن النتيجة كانت تكريس الانقسام. أصبحت المناصب تورَّث بالانتماء، لا تُنال بالكفاءة، وتحول البرلمان إلى مرآةٍ للخرائط القبلية أكثر من كونه ممثلًا لإرادة الشعب.
في ظل هذا الواقع، لم يعد القانون قادرًا على بسط سلطته. فالقرارات تُتَّخذ بمقاييس الولاء، لا وفقًا للمصلحة العامّة. والمشروعات تُوزّع بالمحاباة، والعدالة تُقاس بمعايير العشيرة، لا بمعايير الحقّ. غابت المساواة، وتآكلت المؤسّسات، وتحوّلت الدولة إلى ساحةٍ لصراع الولاءات. المسؤول الذي يخدم الوطن يُتَّهَم بخيانة قبيلته، والمصلح الذي يحارب الفساد يُصوَّر وكأنه يستهدف جماعةً بعينها. وهكذا، تُفقد المسؤولية معناها، وتُشلّ المحاسبة، ويصبح الفسادُ محميًّا باسم العصبية.
إنّها أزمة وعي قبل أن تكون أزمة نظام. فالولاء للقبيلة أقوى من الولاء للدولة، والانتماء للدم أعمق من الانتماء للمواطنة. ومن ثمّ، يصبح الإصلاح السياسي مجرّد تعديلٍ في شكل السلطة، لا في جوهرها. إنّ القانون لا يمكن أن يحكم مجتمعًا لم يتعلّم بعد أن العدالة لا تُورَّث، وأنّ الوطن ليس عشيرةً كبرى بل عقدًا أخلاقيًا بين أفراده جميعًا.
ولا سبيل إلى الخلاص إلا بإعادة تعريف العلاقة بين القبيلة والدولة. فالقبيلة يجب أن تعود إلى مكانها الطبيعيّ: مكوّنًا اجتماعيًّا وثقافيًّا، لا سياسيًّا. عليها أن تظلّ فضاءً للتكافل لا ميدانًا للصراع، وأن تكون مظلّةً للهوية لا أداةً للتمييز. ولا يمكن أن يتحقّق ذلك إلا عبر إصلاحٍ شاملٍ يقوم على مبادئ المواطنة المتساوية، ونظامٍ انتخابيٍّ يعتمد قاعدة “صوتٌ واحد لكلّ مواطن”، وتعليمٍ يُربّي الأجيال على أن الحقوق والواجبات تُستمدّ من الانتماء للوطن، لا من النسب والدم.
كما ينبغي أن تُبنى المؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة على أساسٍ وطنيّ موحّد، لا على ولاءاتٍ عشائريّةٍ تُهدّد استقرار البلاد من الداخل. فالدولة التي يُقسَّم جيشها بالأنساب لا يمكن أن تحمي سيادتها، والعدالة التي تتجزّأ بالقرابة لا يمكن أن تُنصف أحدًا.
لن يكون الإصلاح سهلًا، لأنّ ثقافة المحاصصة القبليّة متجذّرة، والنخب المستفيدة منها لن تتنازل طوعًا عن امتيازاتها. لكنّ التاريخ لا يرحم الأمم التي تظلّ أسيرة انقساماتها. فالدول لا تُبنى بالدم، بل بالعقل، ولا تُحكم بالعصبية، بل بالعدالة.
إنّ نهضة الصومال تبدأ يوم تُستبدل شرعيّة الدم بشرعيّة القانون، ويوم يفهم الصوماليّ أنّ الوطن هو القبيلة الكبرى التي تجمعهم جميعًا تحت رايةٍ واحدةٍ ومصيرٍ واحد. عندها فقط يمكن أن تقوم دولةٌ عادلةٌ تَحكم بالحقّ، لا بالهوية، وبالمواطنة، لا بالانتماء، وبالقانون، لا بالعصبيّة.
*علي حلني، صحفي وباحث صومالي متخصص في الشؤون الإفريقية والشرق أوسطية، وعصو مؤسس للبرلمان الثقافي الصومالي.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر " بوابة إفريقيا".


