الدولة لا تُولد عبر الإعلانات، ولا المفاجآت الدبلوماسية، ولا اعتبارات الملاءمة السياسية. الدولة تُولد بالقانون. والاعتراف الذي يتجاهل القانون لا يصنع سيادة، بل يخلق وهمًا. وقد أصبح هذا التمييز بالغ الأهمية في أعقاب قرار إسرائيل الاعتراف بما يُسمّى «جمهورية صوماليلاند» المعلنة من طرف واحد.
إن النظام الدولي الحديث قائم على مبدأ الانضباط وضبط النفس. فالدول لا تكتسب الشرعية بمجرد إعلان نفسها، ولا بكسب ودّ قوة أجنبية واحدة. بل تكتسبها عبر موافقة مشتركة من سكانها، وحدود متفق عليها من جميع الأطراف المعنية، وحوكمة فعّالة وشاملة، واعتراف يحترم قواعد سلامة الأراضي. هذه ليست مبادئ نظرية مجردة، بل قواعد مُلزمة راسخة في القانون الدولي.
وتُعدّ حالة الصومال مثالًا واضحًا على ذلك. ففي عام 1960، دخل إقليم صوماليلاند البريطاني السابق والصومال الإيطالي في اتحاد طوعي وقانوني لتشكيل الجمهورية الصومالية. وقد سُجّل هذا الاتحاد دوليًا، واعترفت به الأمم المتحدة، وقبله المجتمع الدولي. لم يكن هناك إكراه. ومهما كانت الإخفاقات السياسية التي تلت ذلك عبر العقود، فإنها لم تُلغِ الدولة الصومالية ذاتها. فالحكومات قد تسقط، لكن الدول لا تزول بموجب القانون الدولي.
أما إعلان انفصال صوماليلاند عام 1991 فقد جاء في سياق انهيار الدولة، لا في إطار حلّ قانوني لها. والأهم أنه لم يُصدّق عليه عبر عملية وطنية شاملة، ولم تقبله الدولة الفيدرالية التي خلفت الجمهورية الصومالية. كما أن مجتمعات واسعة داخل الإقليم الذي تدّعيه صوماليلاند—لا سيما في سول وسناغ وعين (ولاية شمال شرق الصومال حاليا)—رفضت الانفصال باستمرار واصطفت ضمن الإطار الفيدرالي الصومالي. إن غياب الرضا الجماعي هذا يمسّ جوهر شرط السيادة.
وعليه، فإن اعتراف إسرائيل بصوماليلاند لا يحل إشكالًا قانونيًا، بل يتجاوزه. فالاعتراف الممنوح دون موافقة الدولة الأم يُعدّ إقرارًا بتغيير أحادي للحدود. ومثل هذا الفعل يُضعف مبدأ سلامة الأراضي المكرّس في ميثاق الأمم المتحدة، ويفتح الباب أمام مطالب مماثلة في أماكن أخرى. وإذا أمكن تغيير الحدود عبر اعتراف انتقائي بدل تسوية تفاوضية، فإن النظام الدولي برمّته يصبح عرضة للاهتزاز.
والاعتراف ليس مجرد رمز؛ بل له تبعات قانونية. إنه يبعث برسالة حول القواعد التي تُحترم وتلك التي يمكن تجاهلها. وعندما يُمنح الاعتراف لكيان انفصالي خارج مسار قانوني، فإنه يكافئ التفكك على حساب التسوية، ويخلق سابقة قد يستغلها آخرون. وفي مناطق تتسم أصلًا بهشاشة الحدود ونزاعات غير محسومة، لا يكون هذا فعلًا محايدًا، بل عاملًا لزعزعة الاستقرار.
وثمة خطر أعمق يتجاوز ذلك. إذ ارتبطت النقاشات حول الاعتراف بصوماليلاند على نحو متزايد بأجندات جيوسياسية وترتيبات أمنية، بل وبأحاديث افتراضية عن إعادة توطين سكاني. وهذه الطروحات تصطدم مباشرة بالقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي العام. فالهندسة الديموغرافية القسرية أو نقل السكان لأغراض استراتيجية—من دون موافقة دولة ذات سيادة—أنتجت تاريخيًا صراعات طويلة الأمد، لا استقرارًا. والقانون وُجد تحديدًا لمنع مثل هذه التجارب.
والمعايير القانونية هنا واضحة لا لبس فيها. فـ«اتفاقية مونتيفيديو» تحدد شروط قيام الدولة، وميثاق الأمم المتحدة يحمي السيادة ومبدأ عدم التدخل. ومعًا، يشكّلان منظومة تهدف إلى تحقيق توازن بين حق تقرير المصير وسلامة الأراضي. وصوماليلاند، رغم بنائها مؤسسات محلية وممارستها حكمًا ذاتيًا بحكم الأمر الواقع، لم تتجاوز العتبة المطلوبة للاعتراف القانوني بالدولة. وهذه حقيقة قانونية، لا عاطفية.
وبالتالي، فإن سيادة الصومال ما تزال قائمة—لا لأنها قوية، بل لأنها قانونية. أما وضع صوماليلاند فما يزال غير محسوم—لا بسبب مؤامرة، بل لافتقاره إلى الأسس القانونية اللازمة للاعتراف ضمن النظام الدولي.
والخلاصة بسيطة لكنها صارمة: قد تُلهم الإعلانات، لكن القانون وحده يدوم. فالدولة التي تُنشأ خارج إطار القانون تظل عرضة للتراجع والعزلة والصراع. أما التسوية المرتكزة إلى الشرعية—عبر التفاوض، والنظام الدستوري، والرضا الشامل—فهي الطريق الوحيد المستدام إلى الأمام.





