كينيا (بوابة إفريقيا) 19 نوفمبر 2025 –في طريقي إلى مدينة مويالي، كانت تتزاحم في ذهني العديد من الأسئلة. لطالما عُرفت مقاطعة مرسابيت بأنها بؤرة صراعات بين المجتمعات، تغذّيها المنافسة على مصادر المياه والمراعي، والخلافات القبلية التاريخية، والتلاعبات السياسية، والتوترات العابرة للحدود مع إثيوبيا، فضلًا عن تحديات تغيّر المناخ.
ومع ذلك، كان اسم واحد يطفو دائمًا في كل حديث: توربي. ما إن يُذكر حتى تنخفض الأصوات ويتبدل تعبير الوجوه؛ فذكريات مجزرة عام 2005 ما تزال حاضرة. في ذلك الصباح المأساوي، قُتل أكثر من 60 شخصًا، بينهم أطفال، ونزح الآلاف، وترك الجرح أثرًا عميقًا في المجتمعات المحلية.
توربي اليوم: من الرعب إلى الأمل
وأنا أقف في قلب توربي اليوم، بدا من الصعب تصديق فظائع الماضي. البلدة تعج بالحياة. التجار يساومون بثقة، الأطفال يركضون ضاحكين في الطرقات، والشاحنات تعبر الطرق الرئيسية بلا توقف. المكان الذي كان يومًا رمزًا للخوف، يدب فيه الآن النبض من جديد. الوجوه المبتسمة ترحّب بالزائر، تعكس قدرة سكانها على الصمود وإعادة البناء. توربي لم تعد تُعرّف بالمأساة وحدها، بل برحلتها نحو التعايش والتنمية.
جذور الصراع في مرسابيت… ولماذا ينمو السلام الآن؟
بينما كنت أتأمل المشهد، شعرت بثقل التاريخ. الصراعات هنا ليست عشوائية، بل متجذّرة في البيئة والهوية والسياسة وغياب الدولة.
الجذور: الجفاف، النزاعات، والندرة القاتلة
لطالما اعتمد الرعاة في مرسابيت على نظام بيئي هش. وعندما يضرب الجفاف، يتحول الماء والمراعي إلى سبب للصراع. ويشير السكان والباحثون إلى أن ندرة الموارد الناتجة عن تغيّر المناخ هي العامل الأكبر وراء العنف بين المجموعات.
وتقرّ حكومة المقاطعة نفسها بذلك؛ إذ حدد تقييمها لمخاطر المناخ (PCRA) أن “ندرة المياه والمراعي ” هي السبب الأول وراء معظم المواجهات.
التوترات القبلية وظلال التاريخ
تتمحور العديد من هذه الصراعات حول مجتمعين بينهما تاريخ معقد: البورانا والگبرا. وعلى الرغم من تعايشهما، إلا أن التنافس التاريخي على الموارد والسلطة يطفو إلى السطح كلما اشتدت الظروف. إنه صراع هوية وموارد وسياسة في آن واحد.
السياسة… الشرارة الأخطر
لا تُختزل أزمة مرسابيت في البيئة وحدها، بل يلعب العامل السياسي دورًا كبيرًا. خلال مواسم الانتخابات، يعمد بعض القادة إلى تأجيج الانقسامات واستغلال الهويات، ما يحوّل التوترات الصغيرة إلى نزاعات كبيرة.
عبر الحدود: أثر القرب من إثيوبيا
موقع مرسابيت على الحدود مع إثيوبيا يزيد الوضع تعقيدًا. حركة الرعاة عبر الحدود ترفع الضغط على الأراضي الرعوية المشتركة، وتخلق الشكوك. كما يحذّر الخبراء من أن ضعف الرقابة الحدودية يسهم في تدفق السلاح غير الشرعي، ما يفاقم العنف.
سرقة الماشية وتجارة السلاح
بات الصراع أكثر تنظيمًا وخطورة. لم تعد سرقة الماشية مجرد تقليد قبلي، بل أصبحت مرتبطة بتجارة السلاح والدوافع السياسية. وتشير تقارير أمنية إلى أن شبكات تهريب الأسلحة تغذي هذه الهجمات المتكررة.
غياب الدولة: الفراغ الأخطر
لأعوام طويلة، كانت الدولة غائبة عن كثير من مناطق مرسابيت. ضعف الأجهزة الأمنية وقلة البُنى التحتية سمحا للمجتمعات بإدارة صراعاتها بنفسها، وغالبًا بطرق عنيفة. ومع أن نظم الحكم التقليدية لعبت دورًا، إلا أن غياب الدولة حدّ من فعاليتها.
التحوّل: تغيّر مقصود ومسنود بالمجتمع
لكن في توربي اليوم، يمكن الشعور بوضوح بأن هناك شيئًا تغير… تغيّر نابع من المجتمع نفسه، وبدعم من الدولة والمنظمات.
أمن المياه: بناء المستقبل
بدأ التحوّل بالمياه. فقد استثمرت الحكومة، عبر هيئة إدارة الجفاف الوطنية (NDMA)، في إعادة تأهيل الآبار. ومن أبرز المشاريع “مشروع غولولي للمياه” الذي يشمل بئرًا معاد تأهيلها، وخط أنابيب بطول 400 متر، وخزانين بسعة 10 آلاف لتر، وبرج مياه بارتفاع 15 مترًا.
كما لعب الصليب الأحمر الكيني دورًا مهمًا بحفر آبار جديدة وإصلاح أخرى في كينيسا وقاتي.
هذه المشاريع قللت التوترات بين الرعاة، إذ لم يعودوا مضطرين للتنقل لمسافات طويلة بحثًا عن الماء.
تنويع مصادر العيش: الزراعة تتجذّر
تشهد مرسابيت تحولًا من نمط الحياة الرعوية الخالصة إلى اقتصاد أكثر تنوعًا. بدأت المقاطعة وشركاؤها في إدخال الزراعة، وحتى تربية الأسماك في بعض المناطق المتأثرة بالجفاف. ونجح بعض السكان في تربية أسماك البلطي، وهو أمر غير مسبوق في المنطقة.
هذا التحول يقلل الضغط على المراعي ويحسّن الأمن الغذائي.
السلام بالحوار: المصالحة من جديد
أهم التحولات حدثت في العلاقات بين المجتمعات. أصبح الحوار ممكنًا بعد سنوات من الصمت والتوتر. فمنطقة مويالي، على سبيل المثال، تشهد بروتوكولات مكتوبة بين البورانا والگبرا لتقاسم الموارد وتنظيم الرعي والمياه.
كما أدرجت المقاطعة مبادرات بناء السلام ضمن استراتيجية المناخ، ليصبح التكيّف المناخي مرتبطًا مباشرة بالمصالحة.
فصل جديد لمرسابيت
هذه ليست مشاريع حكومية فقط، بل تحولات إنسانية يعيشها الناس يوميًا. الماء الذي كان سببًا للفتنة أصبح مصدرًا للتعاون. والزراعة خلقت روابط جديدة. والشيوخ جلسوا للحوار بإرادتهم، لا تحت الضغط.
توربي التي كانت نقطة اشتعال، أصبحت اليوم رمزًا للمصالحة والعيش المشترك.
أصوات من الميدان
قال إبراهيم دييدا، نائب رئيس مركز كينيسا الإداري: “لم تعد لدينا صراعات بين المجتمعات هنا. ورغم قربنا من إثيوبيا، بذلنا جهودًا كبيرة للحفاظ على السلام. لقد حُلّت المشاكل لأن جذورها، من ماء وحوار وفهم، عُولجت.”
كلماته تذكير بأن السلام ليس وثيقة، بل خيارات بشرية يومية.
دروس من توربي: التعايش حيّ
توربي تُثبت أن:
1. الحوار يمكن أن يحل محل الانقسام.
2. الموارد المشتركة يمكن أن تصبح جسورًا لا حدودًا للصراع.
3. المجتمعات قادرة على تجاوز جراح الماضي بالإرادة والدعم.
إن قصة مرسابيت ليست قصة صراع فقط، بل قصة نمو وتكيّف وبناء سلام على الأرض. توربي اليوم تبرهن أن التعايش ممكن حين تتوفر القيادة، والنية، والحلول المستدامة.

