هناك لحظات صغيرة في الحياة تبدو عابرة، لكنها تترك أثرًا لا يُنسى في القلب. بالنسبة لي، تظهر هذه اللحظة كل صباح، وكل مساء، وكل مرة أجلس فيها إلى المائدة—سواء في بيتي أو في مطعم—وأضع الطبق أمامي. أحدّق في الطعام بصمت، وكأن بيني وبينه حديثٌ طويل لا يسمعه أحد سواي. أسأل نفسي: من أين جاء هذا؟ ومن الذي زرعه؟ وفي أي تربة نبت؟ وأي رحلة طويلة قطعها قبل أن يصل إلى فمي؟
ثم تنكشف الحقيقة المؤلمة: أرز من وراء البحار، دقيق من آسيا، خضروات من مزارع ليست مزارعنا، زيوت من دول لا نعرف عنها شيئًا، فواكه قطعت آلاف الكيلومترات، وألبان معلبة وعصائر ومشروبات كلها من أيادٍ أجنبية. وفي تلك اللحظة، أشعر بأن جيبي ينزف بصمت، وأن مالي الذي تعبت في جمعه يتدفق إلى اقتصادات دول أخرى—لا إلى أرضي، ولا إلى يد مزارع صومالي واحد.
لكن الأمر لا يقف عند المال. فكل لقمة آكلها تجعلني أفكر في صحتي وصحة أولادي. هل الطعام الذي أمسكه بيدي حقًا طعام يستحق أن يدخل أجسادنا؟ كم مكث في البرادات؟ كم مرّ من يد؟ كم إضافة ومواد حافظة دخلت فيه؟ أحيانًا أنظر إلى الخضار المستوردة، فأجدها جميلة الشكل لكنها بلا رائحة، بلا طعم، بلا حياة. وأقارنها بما تنتجه الأرض الطيبة—أرضنا—فأشعر أن هناك شيئًا كبيرًا نفتقده.
وفي لحظة تأمل، أفكر في ملايين الصوماليين. ملايين يكدّون ويعملون بكدّ يومي من أجل شراء أكياس أرز مستورد، وسكر مستورد، وزيت مستورد، ودقيق مستورد، وخضار وفواكه مستوردة. ملايين يدفعون قوت يومهم لمزارعين ومصانع خارج البلاد، بينما أرضهم قادرة—بل أكثر من قادرة—على أن تمنحهم غذاءً أصح، وأرخص، وأجود.
فكلنا نعرف هذه الحقيقة المؤلمة: الصومال بلد قادر على الإطعام… لكنه لا يطعم نفسه. لدينا نهران: شبيلي وجوبا. لدينا أراضٍ خصبة تمتد على ملايين الهكتارات. لدينا شمس وطقس يسمحان بثلاثة مواسم زراعية في السنة. لدينا مناطق زراعية متنوعة تستطيع إنتاج الحبوب والفواكه والخضروات والأعلاف والأعشاب الطبية والمحاصيل الصناعية. لكن رغم هذا كله، تعتمد مائدتنا على السفن التجارية، لا على المزارعين الصوماليين.
وهنا يبدأ حلمي، حلم ليس شخصيًا فقط، بل وطنيًا أيضًا: حلمي أن آكل من إنتاج بلدي، من أجل صحتي وفلوسي. حلمي أن أرى يومًا أرزًّا صوماليًا، وخضارًا صومالية، وفاكهة صومالية، وزيتًا صوماليًا، ومنتجات ألبان صومالية، وعسلًا صوماليًا. حلم أن يأكل أطفالي طعامًا خرج من أرضهم، وليس من حاويات مستوردة عبر البحار.
حلمي أن تقلّ فاتورتي الغذائية إلى النصف على الأقل ، لأن الطعام المحلي أرخص. حلمي أن تتحسن صحتي وصحة أسرتي لأن الطعام المحلي طازج، طبيعي، فيه نكهة ورائحة ودورة حياة قصيرة من الأرض إلى الفم. حلمي أن أساهم—من خلال كل وجبة—في تنشيط اقتصاد بلدي، لا اقتصاد الآخرين.
لكن لتحقيق هذا الحلم، علي أن أسأل سؤالًا جوهريًا: لماذا لا ننتج ما نأكل؟ الإجابة ليست في التربة، فالتربة صالحة. وليست في المناخ، فالمناخ مناسب. وليست في المزارعين، فهم يعرفون الزراعة بالفطرة. الإجابة في مكان آخر: في غياب السياسات، غياب المؤسسات، غياب الإرادة.
نحن بحاجة إلى رؤية وطنية تغطي - على الأقل- ثمانية مجالات زراعية كبرى: الحبوب، الفواكه، الخضروات، الأعشاب الطبية، المحاصيل الصناعية، الأعلاف، المحاصيل عالية القيمة، والمحاصيل المتخصصة في كل منطقة. نحتاج إلى مراكز بحث، معهد وطني قوي، إرشاد زراعي، بذور محسّنة، ري حديث، وأسواق منظمة. نحتاج إلى قيادة زراعية تؤمن بأن الأمن الغذائي ليس ترفًا بل أمن قومي.
لقد فقدنا جزءًا كبيرًا من صحتنا بسبب الأغذية المجمّدة والمعلّبة والمستوردة. وفقدنا جزءًا كبيرًا من ثروتنا بسبب فاتورة الاستيراد الباهظة التي تسحب مليارات من عملتنا الصعبة إلى الخارج. وفقدنا جزءًا من كرامة سيادتنا الغذائية حين أصبح مستقبل وجبتنا غير مرتبط بالمزارع الصومالي بل بالسفن العابرة للمحيطات وشركات أجنبية.

